فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [12].
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} أي: جعلناهما، بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر، علامتين تدلان على أن لهما خالقاً حكيماً {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} أي: بجعلها مظلمة: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي: مضيئة لتمييز الأشياء المحسوسة. والإضافة فيهما إما بيانية، أي: الآية التي هي الليل، والآية التي هي النهار. وإما حقيقية. وآية الليل والنهار نيراهما. والمراد بمحو القمر خلقه مطموس النور في نفسه. أو نقص ما استفاده من الشمس شيئاً فشيئاً إلى المحاق. وبجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات، ذات أشعة تبصر بها الأشياء. فالإسناد في {مبصرة} مجازي إلى السبب العادي، أو تجوز بعلاقة السبب. وقوله تعالى: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} متعلق بـ: {جعلنا} أي: لتطلبوا في النهار رزقاً منه سبحانه بالانتشار للمعاش والصناعات والأعمال والأسفار {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي: الحساب المتعلق بما في ضمن السنين من الأشهر والليالي والأيام، أو الحساب الجاري في المعاملات، كالبيوع والإجارات، وفي العبادات، أي: لتعرف مضي الآجال المضروبة لذلك؛ إذ لولاه لما علم أحد حسبان الأوقات ولتعطلت الأمور.
قال السيوطي في الإكليل: هذه الآية أصل في علم المواقيت والهيئة والتاريخ. وفي الآية لف ونشر غير مرتب. انتهى.
وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ} أي: مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم: {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} أي: بيناه في القرآن بياناً بليغاً لا التباس معه. كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فظهر كونه هادياً للتي هي أقوم ظهوراً بيناً.

.تفسير الآيات (13- 15):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [13- 15].
{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائرَهُ فِي عُنُقِهِ} أي: ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيراً وشراً، بحيث لا يفارقه أبداً. بل يلزمه لزوم الطوق في العنق، لا ينفك عنه بحال.
قال الطبري: المعنى: وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله، في عنقه لا يفارقه. وإنما قوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَائرَهُ فِي عُنُقِهِ} مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها.
وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال، وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر، اعتبروا أحوال الطير: وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه. وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم، سمي الخير والشر بالطائر، تسمية للشيء باسم لازمه.
قال الطبري: فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه، نحساً كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيراً، أو كان سعداً يورده جنان عدن. وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد، قيل: لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك، إلى أعناقهم. وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق. كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداه. وإن كان الذي جر عليه لسانه أو فرجه. فكذلك قوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَائرَهُ فِي عُنُقِهِ} وحاصله:- كما قاله الرازي- أن قوله: {في عُنُقِهِ} كناية عن اللزوم. كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي: قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به. ويقال: قلدتك كذا وطوقتك كذا أي: صرفته إليك وألزمته إياك. ومنه قلده السلطان كذا أي: صارت الولاية، في لزومها له، في موضع القلادة ومكان الطوق. ومنه يقال فلان يقلد فلاناً أي: يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه. وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ} أي: نظهر له: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: البعث للجزاء على الأعمال: {كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} أي: يجده مفتوحاً فيه حسناته وسيئاته. ويقال له:
{اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} أي: شهيداً بما عملت.
قال القاشاني: {كِتَاباً} هيكلاً مصوراً يصور أعماله: {يَلْقَاهُ مَنشُوراً} لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة، لا مطوياً كما كان عند كونها فيه بالقوة. يقال له: {اقْرَأْ كَتَابَكَ} أي: اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمرٍ مطاع يأمره بالقراءة. أو تأمره القوى الملكوتية. سواء كان قارئاً أو غير قارئ؛ لأن الأعمال هناك ممثلة بهيئاتها وصورها، يعرفها كل أحد. لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأميِّ: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازماً إياها، نصب عينها، مفصلاً لا يمكنها الإنكار.
وقوله تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ} قال أبو السعود: فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هادياً لأقوم الطرائق، ولزوم الأعمال لأصحابها. أي: من اهتدى بهدايته، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام، وانتهى عما نهاه عنه، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي: {وَمَن ضَلَّ} أي: عن الطريقة التي يهديه إليها: {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: وبال ضلاله عليها، لا على من عداه ممن لم يباشره. فقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} مؤكد لما قبله للاهتمام به.
قال أبو السعود: أي: لا تحمل نفسه حاملة للوزر، وزر نفس أخرى، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها. ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم. بل إنما تحمل كل منهما وزرها. وهذا تحقيق لمعنى قوله عز وجل: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائرَهُ فِي عُنُقِهِ} وأما ما يدل عليه قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85]، وقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] من حمل الغير وزر الغير، وانتفاعه بحسنته، وتضرره بسيئته، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه، وتضرر بسيئته. فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له. وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته، لا جزاء أصل الحسنة والسيئة، وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين. وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال.
وإنما خصَّ التأكيد بالجملة الثانية قطعاً للأطماع الفارغة. حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. انتهى.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} بيان للعناية الربانية، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها. أي: وما صح وما استقام منا، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة، أن نعذب قوماً حتى نبعث إليهم رسولاً يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال؛ لإقامة الحجة وقطعاً للعذر. والعذاب أعم من الدنيوي والأخروي، لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8- 9]، وكذا قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]، وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوماً عذاب استئصال، ولا يدخل أحداً النار إلا بعد إرسال الرسل. قال قتادة: إن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يتقدم إليه بخبر أو بينة. ولا يعذب أحداً إلا بذنبه. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [16].
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة. وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم. وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيوي لانحصارها فيه. والمعنى: إذا أردنا أن نعذب قوماً عذاب استئصال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} يعني متنعميها، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم: {فَفَسَقُواْ فِيهَا} بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} فوجب عليها، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي: فخربناها تخريباً لا يكتنه كنهه ولا يوصف. وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكاً هائلاً، كما جرى لبيت المقدس، لما انحرف اليهود عن شرعتهم، على ما قدمنا بيانه. وإنما خص المترفين، وهم الجبارون والملوك والرؤساء بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل؛ لأنهم الأصل في الخطاب والباقي تبع لهم. ولأن توجه الأمر إليهم آكد. وإنما حذف مفعول: {أَمَرْنَا} لظهور أن المراد به الحق والخير. لاسيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه. وفي إيثار القرية على أهلها زيادة تهويل وتفظيع، إشارة إلى التنكيل بهم بهدم صروحهم ودورهم، وطمس أثرهم، وهو أوجع للقلب وأنكى للعدو. ولذلك أتى إثره بالمصدر المؤكد فقال: {تَدْمِيراً} أي: كلياً بحيث لم يبق لهم زرع أو ضرع.
قال القاشانِيِّ: إن لكل شيء في الدنيا زوالاً. وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال، وحصول انحراف يبعده عن بقائه وثباته، فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها من الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام. فإذا جاء وقت إهلاك قرية، فلابد من استحقاقها للإهلاك. وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله. فلما تعلقت إرادته بإهلاكها، تقدمه أولاً بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعم بطراً وأشراً بنعمة الله، واستعمالاً لها فيما لا ينبغي. وذلك بأمر من الله وقدر منه، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم. وحينئذ وجب إهلاكهم. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [17].
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ} أي: وكثيراً ما أهلكنا من الأمم الكافرة من بعد زمن نوح، كعاد وثمود وفرعون. ممن قُصَّتْ أنباؤهم في القرآن العظيم ومن لم تقص. و{الْقُرُونِ} جمع قرن يطلق على الزمن المعين وعلى أهله المقترنين فيه، وعلى كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد. وخص: {نُوحِ} ولم يقل: من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب. ففيه تهديد وإنذار للمشركين.
{وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي: لا يخفى عليه شيء منها، فيدرك سرها وعلنها وسيجازي عليها.
والآية تدل- كما قال الزمخشري-: على أن الذنوب هي أسباب الهلكة، وذلك لأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتَمَّ، دل على أنه جازاهم بها.

.تفسير الآيات (18- 19):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [18- 19].
{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}.
أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، ولها يعمل ويسعى، وإياها يبتغي؛ لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثواباً ولا عقاباً من ربه على علمه: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} أي: ما نشاؤه من بسط الدنيا عليه أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل به ذلك. أو من إهلاكه بما يشاء تعالى من عقوباته المعجلة. ثم يصلى جهنم في الآخرة: {مَذْمُوماً} على قلة شكره لمولاه، وسوء صنيعه فيما سلف له: {مَّدْحُوراً} مطروداً من الرحمة، مبعداً مقصيِّاً في النار. ومن أراد الآخرة وإياها طلب، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه، فأولئك كان عملهم مشكوراً بحسن الجزاء.
تنبيه:
قال القفال رحمه الله: هذه الآية داخلة في معنى قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائرَهُ فِي عُنُقِهِ} فالآية الأولى تشير إلى من جعل طائر نفسه شؤماً. والثانية لمن جعله يمناً وخيراً. وفي قوله تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} أي: ما يحق ويليق بها من الأعمال الصالحة، تبيين لقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} بأن إرادتها هو بالسعي والنصب في مغالبة الباطل وإعلاء شأن الحق مع التلبس بالإيمان الصحيح، بفعل المأمور واجتناب المنهي عنه. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (20- 22):

القول في تأويل قوله تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} [20- 22].
{كُلاًّ نُّمِدُّ} أي: كل واحد من الفريقين. وقوله: {هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ} بدل من {كلاًّ}: {مِنْ عَطَاء رَبِّكَ} أي: فضله. فيرزقهما جميعاً من رزقه إلى بلوغهما الأمد واستيفائهما الأجل، ما كتب لهما. ثم تختلف بهما الأحوال بعد الممات، وتفترق بهما بعد الورود المصادرُ. ففريق مريدي العاجلة، إلى جهنم مصدرهم. وفريق مريدي الآخرة، إلى الجنة مآبهم: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} أي: ممنوعاً لا يمنعه من عاصٍ لعصيانه. والجملة كالتعليل لشمول الإمداد للفريقين.
{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: في الرزق في الدنيا: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} لأن فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم أشار تعالى إلى ما به تنال درجات الآخرة من البراءة من الشرك، ومن الاعتصام بالإيمان وشعبه، بقوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} أي: لا تجعل معه شريكاً في عبادته فتصير مذموماً ملوماً على الشرك، مخذولاً من الله، يكلك إلى ذاك الشريك ولا ينصرك: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عِمْرَان: 160].